هل أنا كاتب أم مجرد ناقل؟ | هواجس مترجم يبحث عن صوته

بعد مرور عشرين عاماً في محراب الترجمة، يتجاوز الأمر مجرد البحث عن معاني الكلمات في القواميس ليتحول إلى سؤال وجودي يطاردني مع كل مشروع جديد: من أكون حقاً داخل هذا النص؟ هل أنا “كاتب” يعيد خلق الفكرة بروح جديدة، أم مجرد “ناقل” أمين يؤدي الأمانة ويختفي؟ في السطور القادمة، أخلع عباءة التنظير الأكاديمي لأتحدث بلسان الخبرة عن “الشيزوفرينيا” المحببة التي نعيشها يومياً؛ بين نشوة العثور على صياغة عبقرية تشعرك بأنك المؤلف، وبين مرارة ضرورة “الاختفاء” لكي يلمع النص الأصلي. كما أتجاسر وأكسر أحد أكبر “التابوهات” في مهنتنا بالحديث عن “الترجمة الحرفية” كضرورة لا كخطيئة. هذه ليست دروساً تعليمية، بل هي “هواجس” مترجم قرر أن يفكر بصوت عالٍ حول مهنة نعيشها بقلوبنا وعقولنا معاً.

بعد سنين طويلة في المهنة دي، الواحد بيبدأ يسأل نفسه أسئلة وجودية شوية. في البداية، كان همي كله إزاي الجملة تطلع صح نحويا ولغويا. لكن النهاردة، وأنا بقرأ نص ترجمته من عشر سنين، وبقارنه بنص لسه مخلصه امبارح، السؤال اللي بيطاردني مش هل الترجمة صحيحة؟، السؤال هو: أنا فين في النص ده؟ وفين بصمتي؟

هل أنا فعلا كاتب بيعيد صياغة الفكرة بروحه؟ ولا أنا مجرد ناقل أمين -زي ساعي البريد- مهمته يوصل الرسالة من غير ما يفتح الظرف؟

الحقيقة إن الموضوع معقد، وأبعد بكتير من تعريفات الكتب الأكاديمية.

نشوة الصياغة من العدم وإحياء الجملة

فيه لحظات كده في شغلنا، بتبقى هي المكافأة الحقيقية وسط وجع الدماغ اليومي. اللحظة اللي بتقف فيها قدام مصطلح إنجليزي معقد، أو تعبير ثقافي ملوش مقابل مباشر، وتفضل تلف وتدور حواليه، لحد ما فجأة تلمع في دماغك الكلمة العربية المثالية.

يا سلام على اللحظة دي! اللحظة اللي بتحس فيها إنك مش بس ترجمت المعنى، أنت نحتّ الجملة من أول وجديد. بتشوف النص العربي قدامك متماسك، قوي، وله طرَب كده، لدرجة إنك بتنسى الأصل الإنجليزي تماما. في اللحظات دي، أنا بكون كاتب 100%. بكون شريك للمؤلف الأصلي، وأحيانا -بيني وبين نفسي- بحس إني تفوقت عليه في الصياغة. دي المتعة اللي بتخلينا نكمل، إحساس إنك بتخلق حياة جديدة لنص كان ممكن يموت لو تُرجم بشكل آلي.

لعنة “الرجل الخفي”

بس المتعة دي وراها مفارقة غريبة ومؤلمة شوية. في مهنتنا، النجاح معناه “الاختفاء”. أيوه، زي ما بقولك كده. كل ما كنت مترجم “شاطر” ومحترف، كل ما القارئ محسش بوجودك أصلا. القارئ المفروض يقرأ النص وكأنه اتكتب بالعربي، وينسى تماما إن فيه وسيط في النص.

عارف الإحساس ده؟ عامل زي صانع الزجاج اللي بيعمل شباك نقي جدا وشفاف لدرجة إن الناس بتبص من خلاله على المنظر اللي ورا، ومحدش بياخد باله من نقاء الزجاج نفسه. معظمنا أكيد ساعات بيحس بغيرة مهنية مشروعة. الكاتب بياخد المجد كله، واسمي بيتكتب بخط صغير (لو اتكتب أصلا)، مع إن لولا أنا، كان كلامه ده فضل هو والطلاسم واحد بالنسبة للقارئ العربي. بس مع الخبرة، الواحد بيتعلم يروض الإيجو بتاعه شويتين، ويقبل بكونه الجندي المجهول أو الظل اللي بيسند النص. وبالمناسبة الظل دي شغلانة دلوقتي ولو جابب بحث عنها اسمها Ghostwriter أو Shadow Writer.

اعترافات في الترجمة الحرفية

نيجي بقى للنقطة اللي المترجمين الكبار بيخافوا يتكلموا فيها عشان البرستيج، ألا وي الترجمة الحرفية. في الكليات والدورات، بيعلمونا إن الترجمة الحرفية دي خطيئة، وإنها دليل على ضعف المترجم. الكلام ده جميل نظريا، بس الواقع العملي له رأي تاني.

بعد العمر ده كله في السوق، أقدر أقول بقلب جامد: “أيوه، أنا أحيانا بترجم حرفي”. ومش عن جهل ولا قلة حيلة. ساعات النص القانوني بيفرض عليك تكون ناقل مسطرة، لأن أي إبداع أو تصرف ممكن يضيع حق قانوني. وساعات تانية -ولازم نكون صرحاء- زنقة الوقت وضغط العميل اللي عايز 5000 كلمة بكرة الصبح، بتخليك تختار الحل الآمن والمباشر بدل ما تقعد تنحت في صخور البلاغة.

ده مش اعتراف بالتقصير، ده اعتراف بالحرفية. الخبرة علمتني إن مش كل نص محتاج أكون فيه مصطفى الرافعي اللي مجننا كلنا كمترجمين. فيه نصوص محتاجة صنايعي يوصل المعلومة بدقة وخلصنا. الذكاء هنا مش إنك ترفض الترجمة الحرفية، الذكاء إنك تعرف امتى تستخدمها، وإمتى ترفضها.

في النهاية، أنا وصلت لقناعة مريحاني: أنا كاتب وناقل في نفس الوقت. أنا كاتب لما النص يسمح لي أحط بصمتي، وناقل أمين لما النص يفرض عليّ الحياد. وده يمكن سحر الشغلانة دي… إننا بنعيش بشخصيتين، والاثنين حقيقيين جدا.

هل تحتاج إلى ترجمة معتمدة؟

تواصل معنا الآن للحصول على خدمة ترجمة دقيقة وسريعة تضمن قبول مستنداتك لدى أي جهة رسمية.

لا تتردد في التواصل معنا عبر الهاتف أو البريد الإلكتروني للحصول على خدمات الترجمة المعتمدة التي تحتاجها. نحن هنا لخدمتك وضمان تقديم أعلى مستويات الجودة في الترجمة.

تواصل معنا إذا كنت تبحث عن ترجمة معتمدة أو مكتب ترجمة معتمد في دمنهور.

ابدأ الآن واجعل مستنداتك جاهزة للاستخدام الرسمي في أي مكان حول العالم!